تستحوذ مناجاة الصّيام الكبرى على الإنسان طيلة سنوات البلوغ من حياته حتى تصبح في النهاية نعمة القيام بفريضة الصّيام ونعمة تلاوة هذه المناجاة موهبةً سنويةً عظيمةً، وامتيازاً وشرفاً كبيراً في الحياة. فإذا بدأ الإنسان بتلاوة هذه المناجاة قبل طلوع الشّمس بخمس دقائق يكتشف وكأنها تتزامن عن قصد مع الشّروق: فيجد الإنسان نفسه واقفاً على "باب مدينة لقاء الله" ملتمساً فضله؛ ثم يأتي "ظلّ رحمته وقباب كرمه" - ثم يحدث التّمييز بين النّور والظّلام، وتغرّد الطيور، ويتبع ذلك "ضياء غرّته الغرّاء وإشراق أنوار وجهه" - تبدأ السّماء تضيء بالألوان؛ يسأل المُناجي ربّه بأن "يريه شمس جماله" - تستمر الشمس في الطلوع! يطلّ بعدها الفجر بكامل أبّهته، رمزاً للربيع الإلهي، "بخباء مجده على أعلى الجبال"؛ وبينما يتأمل الإنسان الشمس تصعد في السماء يصل إلى الكلمات التي تقول "جمالك المُشرق من أفق البقاء الذي إذا ما ظهر سجد له ملكوت الجمال."
يحدث كلّ هذا في النصف الأول من المناجاة. ولكن ما يلتمسه المُناجي هو: أن يتلقّى فضل الله، ويتقرّب إليه، وينجذب إليه، ويشرب من معين كلماته، ويقوم على خدمة أمره على شأنٍ لا يعيقه الذين أعرضوا عن وجهه، ويعترف بمظهره، ويريد ما أراده، و"يجعله فانياً عما عنده وباقياً بما عند الله"، ويوفّقه على ذكره وثنائه، ويبعده عن كل ما يكرهه رضاؤه، ويقربه إلى مقام الذي تجلّى فيه مطلع آياته، وأن يُعرّف هذا المُناجي ما كان مستوراً في كنائز عرفان الله وعلمه، وأن يجعله من الذين فازوا بما أنزله الله في كتابه، وأن يكتب له من قلمه الأعلى ما كتبه لأمنائه وأصفيائه، ويكتب له "أجر الذين لم يتكلموا إلا بإذنه وألقوا ما عندهم في سبيله وحبه"، وفي آخر الأمر يدعو الله "بأن يكفّر جريرات الذين تمسّكوا بأحكامه وعملوا بما أمروا به في كتابه". ومثلها مثل فكرة مهيمنة متكررة في مقطوعة موسيقية، تتكرّر نفس اللازمة مرة تلو المرة. ""تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى." عندما أردّدها أتخيّل نفسي دائماً مع والديَّ وأحبَّتي المتصاعدين، متشبثين معاً بهذا الذيل السّماويّ المجازي، وأشعر وكأنّني قريبة منهم بدرجة كبيرة. إنّها بحقّ مناجاة زاخرة بالاستعارات العرفانية البليغة، مناجاة تأخذك عبر تجربة لا نهاية لها.
مناجاة الصيام الكبرى
بسمه المشرق من أفق سماء البيان
اللهمّ إنّي أسألك بالآية الكبرى وظهور فضلك بين الورى أن لا تطردني عن باب مدينة لقائك ولا تخيّبني عن ظهورات فضلك بين خلقك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بندائك الأحلى والكلمة العليا أن تقرّبني في كلّ الأحوال إلى فِناء بابك ولا تبعدني عن ظلّ رحمتك وقباب كرمك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بضياء غرّتك الغرّاء وإشراق أنوار وجهك من الأفق الأعلى أن تجذبني من نفحات قميصك وتُشربني من رحيق بيانك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بشعراتك التي يتحرّك على صفحات الوجه كما يتحرّك على صفحات الألواح قلمك الأعلى وبها تضوّعت رائحة مسك المعاني في ملكوت الإنشاء أن تقيمني على خدمة أمرك على شأن لا يعقبه القعود ولا تمنعه إشارات الذين جادلوا بآياتك وأعرضوا عن وجهك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك باسمك الذي جعلته سلطان الأسماء وبه انجذب من في الأرض والسماء أن تريني شمس جمالك وترزقني خمر بيانك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بخباء مجدك على أعلى الجبال وفسطاط أمرك على أعلى الأتلال أن تؤيّدني على ما أراد به إرادتك وظهر من مشيّتك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بجمالك المُشرق من أفق البقاء الذي إذا ما ظهر سجد له ملكوت الجمال وكبّر عن ورائه بأعلى النّداء بأن تجعلني فانياً عمّا عندي وباقياً بما عندك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بمظهر اسمك المحبوب الذي به احترقت أكباد العشّاق وطارت أفئدة مَن في الآفاق أن توفّقني على ذكرك بين خلقك وثنائك بين بريّتك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بحفيف سدرة المنتهى وهزيز نسمات آياتك في جبروت الأسماء أن تُبعدني عن كلّ ما يكرهه رضاؤك وتقرّبني إلى مقامٍ تجلى فيه مطلع آياتك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بالحرف التي إذا خرجت من فم مشيّتك ماجت البحار وهاجت الأرياح وظهرت الأثمار وتطاولت الأشجار ومحت الآثار وخرقت الأستار وسرُع المخلصون إلى أنوار وجه ربّهم المختار أن تعرّفني ما كان مكنوناً في كنائز عرفانك ومستوراً في خزائن علمك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بنار محبّتك التي بها طار النّوم من عيون أصفيائك وأوليائك وقيامهم في الأسحار لذكرك وثنائك أن تجعلني ممّن فاز بما أنزلته في كتابك وأظهرته بإرادتك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمّ إنّي أسألك بنور وجهك الذي ساق المقرّبين إلى سهام قضائك والمخلصين إلى سيوف الأعداء في سبيلك أن تكتب لي من قلمك الأعلى ما كتبته لأمنائك وأصفيائك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
اللهمَّ إني أسألك باسمك الذي به سمعتَ نداء العاشقين وضجيج المشتاقين وصريخ المقربين وحنين المخلصين وبه قضيت أمل الآملين وأعطيتهم ما أرادوا بفضلك وألطافك وبالاسم الذي به ماج بحر الغفران أمام وجهك وأمطر سحاب الكرم على أرقّائك أن تكتب لمن أقبل إليك وصام بأمرك أجر الذين لم يتكلّموا إلا بإذنك وألقوا ما عنده
أي ربِّ أسألك بنفسك وبآياتك وببيّناتك وإشراق أنوار شمس جمالك وأغصانك بأن تكفّر جريرات الذين تمسّكوا بأحكامك وعملوا بما أمروا به في كتابك. تراني يا إلهي متمسكاً باسمك الأقدس الأنور الأعزّ الأعظم العليّ الأبهى ومتشبّثاً بذيل تشبّث به من في الآخرة والأولى.
(حضرة بهاء الله - رسالة تسبيح وتهليل)
No comments:
Post a Comment